دخول
بحـث
Google 1+
زوار المنتدى
.: أنــت زائــرنــــا رقـــــم :.
الســــــــــــــــاعة
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 6 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 6 زائر لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 49 بتاريخ الأربعاء أكتوبر 23, 2024 7:16 am
مواضيع مماثلة
المواضيع الأخيرة
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
نبض الحياة | ||||
ود الرضي | ||||
عبد الماجد محجوب | ||||
ahmed sinaa | ||||
عثمان جكنون | ||||
simo | ||||
bisho sax | ||||
imane | ||||
training_2012 | ||||
مصطفى تتو |
الساعة الأن
مواصلة موضوعنا مطارحات حول قضيّة المرأة
مـنـتـديــــــــــات الـمهنـــدسيــــــن الـــتـقـنـيـــيـن :: الأقسام الأجتماعية :: منتدى النقاش الهادف
صفحة 1 من اصل 1
مواصلة موضوعنا مطارحات حول قضيّة المرأة
(3) أحكام الشريعة: التاريخ/النسبية:
أشرتُ في مداخلتي إلى أن أحد أهم المشاكل التي تعاني منها الحياة الفكرية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية هو إلباس المسائل الدنيوية، العَلمانيّة، لبوسًا دينيا، وتحويلها إلى مسائل لاهوتية وإضفاء طابع قدسي وإطلاقي عليها وتحريم الخوض فيها وتكفير كل دعوة إلى تعديلها أو تغييرها. ففي الأوساط الدينية المحافظة والتيارات السلفية والأصولية مثلا يعتبر تعدد الزوجات وعدم المساواة بين الرجل والمرأة وحرمانها من حقوقها الأساسية بما في ذلك أحيانا حقها في الدراسة والشغل وممارسة مختلف المهن والوظائف العمومية وقوامة الرجل على المرأة و"حقه" في تأديبها ضربا، جزءا لا يتجزأ من "العقيدة الإسلامية" ومن "الهوية العربية الإسلامية" وبالتالي فإن الطعن في تلك الأحكام والمواقف والممارسات يعتبر طعنا في الدين والهوية.
وليس هذا الموقف موقفا، هامشيا معزولا اليوم، بل هو موقف شائع، مؤثـّر شديد التأثير خصوصا مع المد الذي يعرفه مجددا الفكر السلفي بكل تلويناته وتيارات الإسلام السياسي بمختلف فروعها. وقد أحدث هذا الواقع ارتباكا شديدا داخل القوى الديمقراطية العلمانية التي تعددت ردود فعلها. ونودّ التعرّض بصورة خاصة إلى ردّتي فعل من بين هذه الردود، ويتمثل الأول في التراجع عن الدفاع عن حقوق المرأة من موقع عَلماني، تقدمي، واللجوء إلى "حجج دينية" للدفاع عن هذه الحقوق اقتداء ببعض أعلام المدرسة الإصلاحية الإسلامية أمثال الطاهر الحداد وقاسم أمين ومحمد عبده وغيرهم، ممّن حاولوا إعادة تأويل النص الديني لتحميله معاني جديدة تتوافق مع ضرورة تحرير المرأة من العديد من القيود التي تكبلها. وقد نحا البعض الآخر منحى مناقضا لهذا التوجه إذ يغالي في نقد الإسلام متهما إياه بأنه السبب الرئيسي في الأوضاع التي تعاني منها المرأة، ويردّ ردا انفعاليا على كل إشارة إلى الإسلام أو إلى الهوية العربية الإسلامية حتى لو لم تكن لها أية علاقة بالحركات السلفية والأصولية. إن هذين الموقفين أحاديا الجانب ويتطلبان منا توضيحات وتصحيحات عدة حتى يستقيم أمرهما.
إن الموقف الأول يتميز، كما لا يخفى على أحد، ببعض النجاعة السياسية لما فيه من مراعاة إن لم نقل من "تحيّل"، على الذهنية العامة للناس، بما أنه يحاول أن يقنعهم بأنهم، بتبنيهم لهذا المكسب أو ذاك من المكاسب المتعلقة بالمساواة بين الجنسين والتي تحققت في العصور الحديثة، لا يخرجون من "قشرتهم" أي لا يتخلون عن "دينهم" و"هويتهم" و"تراثهم" أي أنهم يبقون "هُمُ" وهو ما يريح ضمائرهم، ويقيهم ولو نسبيا، من بعض الارتباك أو الشعور بنوع من الانفصام. لكن لهذا الموقف حدوده ومساوئه، لا لسبب هشاشته المنهجية في مواجهة "المحافظين" الذين يمكنهم أن يستخرجوا من النصوص الدينية، آيات وأحاديث كثيرة قادرة على "مهزلة" التأويلات التي يقوم بها أصحاب ذلك الموقف وإظهار طابعها الملفق (خصوصا إذا كان الموقف الوارد في تلك النصوص واضحا) بل لأنه يحوّل المعرفة إلى مجرّد عملية تأويل مستمرة للنصّ. فالنص مطلق، ثابت، جاء بكافة المعارف، وفي كافة الميادين مرة واحدة وما على المسلم إلا أن "يولّد" أو "يستنبط" منه، عن طريق إعادة التفسير والتأويل وفقا لمقتضيات العصر، وهو ما ينزع عن المعرفة بشكل عام وعن المعارف الواردة في النص بشكل خاص طابعها التاريخي. إن المعرفة غير معزولة إطلاقا عن التجربة والممارسة التاريخيين في كل المجالات وتحديدا في العلم والاقتصاد والاجتماع والسياسة. وبما أن المعرفة تاريخية فهي مثلها مثل كل الظواهر التاريخية، تتطور وتشهد في تطورها تراكمات كمية كما تشهد قفزات نوعية تنتقل فيها من طور إلى طور تتم فيه مراجعة المعارف السابقة في هذا الميدان أو ذاك، فيكون لذلك انعكاس على حياة الإنسان الفكرية (نظرته لنفسه وللمجتمع والطبيعة) والمادية (وسائل عيشه...).
وفوق ذلك فإن هذه النظرة التأويلية تطمس ما يقوم به "المؤوّلون" من مجهود معرفي، ذلك أن المواقف التي يعبرون عنها هي في الواقع منطلقة من معارف عصرهم الناجمة عن سيرورة تاريخية عاشتها مجتمعات أخرى متقدمة أو تعيشها مجتمعاتهم ولو بشكل جزئي ومحدود أو حتى مشوه كما هو حال المجتمعات العربية. ولكن هؤلاء يحاولون تقديمها على أنها موجودة أصلا في النصوص الدينية أو أن هذه الأخيرة لا تعارضها مبدئيا. ويكمن الجانب السلبي في هذا المنهج في أنه يشجع المؤمن/المسلم على نوع من الكسل والخمول الفكريين، فهو عوض أن يجتهد ويبحث وينقد ويراجع ويتجاوز أو حتى يقطع ويؤسس، أو بالأحرى ينتج معارف جديدة في هذا المجال أو ذاك، يكتفي باستهلاك المعارف التي ينتجها الآخرون المتقدمون عنه تاريخيا، مع محاولة "تأصيلها" أو "تجذيرها" بشكل تلفيقي في ثقافته. إن المعرفة لا ينتجها إلا من يدرك أنها حصيلة بحث وصراع مع القديم الذي تجاوزه الزمن. فالمساواة بين المرأة والرجل مثلا ليست موجودة من قبل في أي حضارة من الحضارات، ولم تقرّها بشكل تام وفعلي أي شريعة من الشرائع لأسباب تاريخية بالطبع، وهي نتاج العصور الحديثة التي سجلت تطورات نوعية في كافة ميادين الحياة، وحتى في هذه العصور لم تأت المساواة ولم يقع إقرارها كمبدأ عام إلا عبر صراعات مضنية خاضها النساء وأنصارهن من الرجال التقدميين. لذلك فأن يقول المرء إن المساواة بين الجنسين "موجودة في النص أصلا" وتكفي قراءته وتأويله من جديد على هذا النحو أو ذاك، إنما هو يوقع المسلم، عن وعي أو عن غير وعي، في خلط من شأنه أن يحدّ من جهوده لكسب المعرفة وإنتاجها إضافة إلى أنه لا يتيح له التعامل مع تاريخه وثقافته من زاوية نقدية. إن النصوص، كل النصوص، بما في ذلك النصوص الدينية لها تاريخيتها أي أنها مرتبطة باللحظة التاريخية التي ولـّدتها أو وُلِدَتْ فيها وهي تحمل بالضرورة سماتها.
هذا في خصوص الموقف الأول. أما الموقف الثاني فإن ما يتسم به من تشنج إزاء الإسلام لا تفسره إلا النظرة اللا تاريخية إلى هذه الديانة، وهي نظرة لا تختلف في لا تاريخيتها عن النظرة المقابلة التي تعتبر أحكام الإسلام أو شريعته "خارجة عن التاريخ" و"صالحة لكل زمان ومكان". إن الإسلام، موضوعا في إطاره التاريخي، شكّل "ثورة" في اللحظة التي جاء فيها، والعبارة ليست لي، وإنما هي لكارل ماركس، واضع أسس علم التاريخ الحديث. وقد شكل الإطار الفكري والسياسي لأعظم حضارة في العصر الوسيط، وأدخل إصلاحات على وضع النساء مقارنة بوضعهن السابق، في مكة والحجاز خاصة. وظهر خلال القرون الأولى للإسلام مفكرون استنكروا الوضع الدوني للمرأة في ما تعلّق بتعدد الزوجات، أو حجبهن في البيوت واستعبادهن (المعري، الجاحظ، ابن رشد...). ولما توقفت الحضارة العربية الإسلامية عن التطور وتحديدا عن الانتقال إلى مرحلة الرأسمالية لأسباب لا يسمح المجال بشرحها وسيطر على المجتمعات العربية والإسلامية الجمود الفكري والعقائدي، ازداد اضطهاد النساء وأصبغ الفقهاء وضعهن الدوني بصبغة قدسية، وربطوا ذلك الوضع بـ"إرادة إلهية". وكان النساء في البلدان المسيحية يعانين وقتها من نفس الأوضاع بل أحيانا من أوضاع أقسى وأشدّ. ولكن ما حصل هو أن هذه البلدان شهدت نهضة كبرى بظهور الرأسمالية فيها التي توّجت بثورات سياسية واجتماعية وفكرية ذات طابع بورجوازي خلقت إطارا جديدا لطرح مسألة تحرر النساء من عبودية القرون الوسطى. وفي الوقت الذي كان فيه النساء في أوروبا في القرن 19 ينهضن، كانت الأوضاع في المجتمعات العربية والإسلامية راكدة وأوضاع النساء فيها متخلفة، وفي هذه اللحظة حصل الانفصال بين وضع النساء في أوروبا ووضع النساء في البلدان العربية والإسلامية ثم حصل لاحقا الانفصال بين وضع النساء في معظم بلدان العالم التي شهدت تحولات ووضع النساء في البلدان العربية والإسلامية التي حافظت على أنظمتها القديمة. ولا يمكن تحميل مسؤولية تخلف أوضاع النساء العربيات والمسلمات إلى الإسلام في حد ذاته، فهذه نظرة مثالية مغلوطة. إن الإسلام جاء في لحظة تاريخية محددة وقام بدور هام في تطوير وضع المجتمعات العربية القديمة ولكنّ المسؤولية مسؤولية المسلمين الذين لم يطوروا أوضاعهم ولم ينهضوا كما نهض الأروبيون، وحافظوا على بناهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التقليدية المتخلفة، التي سهلت سيطرة الاستعمار عليهم. وبما أنهم لم يتطوروا ولم ينهضوا فإنهم لم يشهدوا ثورات فكرية واجتماعية وسياسية، كما أنهم لم يشهدوا حتى حركة إصلاح ديني عميقة كالتي شهدتها أوروبا في القرن السادس عشر. ولم ينتجوا معارف جديدة ولم يحدثوا تحولات جوهرية في أوضاع النساء. وما يزال العرب والمسلمون إلى اليوم يعانون من التخلف لأنهم، لم يشهدوا، رغم كل المحاولات، ثورة جذرية على أوضاعهم، لأسباب داخلية وخارجية، منها الهيمنة الامبريالية الاستعمارية في أشكالها القديمة والجديدة من جهة وأنظمة العمالة والاستبداد من جهة ثانية. وهذا التحالف معيق للتطور والتحديث في المجتمعات العربية والإسلامية وهو في أحسن الأحوال يقود إلى تحديث مشوه. ولا يمكن تحقيق نهضة عميقة وشاملة قادرة على الارتقاء بوضع النساء إلا بالقضاء على هذا التحالف. وهذه المهمة لا يمكن أن تنجزها إلا الطبقة العاملة المسنودة بالشعب، لأنها هي القوة الاجتماعية الوحيدة القادرة، في غياب بورجوازية وطنية، على قيادة تحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية عميقة ولكن هذا الأمر يبقى مشروطا بوعيها بذاتها وبدورها الاجتماعي. لذلك فإن محاولة ربط التأخر الحالي الذي تعاني منه أوضاع النساء بـ"الإسلام" في حد ذاته هو تفسير مثالي، دون أن يعني ذلك أن الإيديولوجيا الدينية ليس لها دور في عرقلة تحرر النساء، ولكن هذه الإيديولوجيا تفعل فعلها من خلال البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التقليدية، وما يسهّل تجاوزها هو تثوير هذه البنى، وقتها ستتوفر الظروف لتتهاوى تلك الإيديولوجية وتحل محلها إيديولوجيا تقدمية.
إن ما أردنا قوله هو أن التشنّج الذي يبديه البعض حيال الإسلام لا يمكن أن يقنع عامة الناس الذين سيرون فيه استفزازا لمشاعرهم الدينية. ولكن هل يعني ذلك عدم نقد الشريعة أو الدين أو الفكر الديني بصفة عامة، بدعوى عدم المساس بتلك المشاعر. لا، أبدا! إنما المسألة تتمثل في معرفة أي مدخل يمكن اعتماده لمناقشة أحكام الشريعة المتعلقة بالمرأة مثلا، مناقشة هادئة، موضوعية، مقنعة، لا مجال فيها لاستفزاز المشاعر الدينية من جهة أو لتقديس أحكام الشريعة من جهة ثانية. إن هذا المدخل هو التاريخ الذي قال عنه ماركس في "الأيديولوجيا الألمانية": "نحن لا نعرف إلاّ علما واحدا وهو علم التاريخ" تأكيدا لأهميته في معرفة تطور الحياة البشرية والقوانين العامة التي وجّهتها وحكمتها. والتاريخ هو الذي يمكّننا من تنسيب الأشياء. فوضع كل حكم من أحكام الشريعة في إطاره التاريخي أي في إطار الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي يتنزل فيها من شأنه أن ينزع عنه كل طابع إطلاقي ويبين لماذا كان على ذلك النحو وليس على نحو آخر ويضفي عليه بالتالي صبغة انتقالية في مجرى التاريخ المتطور باستمرار.
لقد بينتُ في مداخلتي مثلا الطابع التاريخي، النسبي، الانتقالي لأحكام الميراث وارتباطها بالعلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة وقتها في مكة والحجاز، وأكدت أن هذه الأحكام تجاوزها الزمن بتجاوز الظروف التي أنشأتها ومجيء ظروف جديدة أصبح فيها للنساء موقع جديد في العلاقات الاجتماعية بسبب خروجهن إلى الشغل ومساهمتهن في الحياة العامة. ويمكننا إضافة مثال ثان وهو حدّ قطع يد السارق. فهذا العقابُ كان سابقا للإسلام وابتدعه حسب الإخباريين الوليد بن المغيرة (والد خالد) (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي، ج-5، ص 605) في مجتمع قبلي لم تكن فيه لا دولة ولا سلطة قضائية ولا سجون، فكانت الأحكام تتخذ طابعا ماديا مباشرا. وكان حكم قطع يد السارق سُنّ في وقت قريب من الإسلام، فلما جاء الإسلام حافظ عليه (حتى وإن رفض مبتدعه الوليد بن المغيرة دخول الإسلام)، وهو ما لا ينزع عنه طابعه التاريخي، النسبي والانتقالي، لكن الفقهاء أصبغوه بصبغة إطلاقية، وجعلوه فوق التاريخ. ولئن تجاوزه عدد من البلدان الإسلامية التي أصبحت تطبّق قوانين وضعية فإن دولا أخرى ما تزال تطبّقه كما تطبّق عقوبات بدنية أخرى مثل الجلد والرجم. كما أن تيارات سلفية عديدة ضمنت برامجها تطبيق الحدود. وهي تدعو إلى التراجع عن القوانين الوضعية التي استبدلت عقوبة قطع يد السارق بعقوبة السجن، وهو ما يجعلها خارج التاريخ وضد التقدم الإنساني الذي أعطى للجسم حرمته وآمن بإمكانية الإصلاح، وتشوه صورة المسلم وتسهّل على القوى الامبريالية والاستعمارية تقديمه على أنه "متوحّش" و"متخلف".
إن التاريخ إذن يبقى هو المدخل للتنسيب، ولتيسير نشر الوعي في صفوف جماهير الشعب بشكل عام وجماهير النساء بشكل خاص حتى تتصدى للفكر الرجعي المتخلف الذي يتستر بالدين، ويصبح التقدم وبالتالي مبادئ الحرية والمساواة جزءا من هويتها الجديدة. إن المسألة ليست مسألة صراع بين "مؤمنين" و"ملحدين" وإنما هي بين قوى التقدم التي تريد للشعب التونسي ولنساء تونس الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وقوى التخلف التي تشدهما إلى الوراء، عن طريق الاستغلال الفاحش والاستبداد السياسي والفكري والتبعية.
(4) العَلمانية، الهوية، والوطنية:
نقطتان أثيرتا في هذا المجال، الأولى تتمثل في ما يتردد على العديد من الألسن من أن التونسي أو التونسية، (المسلم/المسلمة)، في حاجة إلى الشعور بـ"الاطمئنان" بأنهما "يحافظان على إيمانهما" من جهة و"يواكبان عصرهما" من جهة ثانية، فلا "انفصام" عن ماضيهما من ناحية ولا عن حاضرهما من ناحية ثانية. وفي الواقع لا يوجد غير العلمانية لتوفر هذا التوازن. ذلك أن مأتى الاضطراب لدى البعض متأتّ من الخلط بين العقيدة من جهة والمسائل الاجتماعية والسياسية من جهة ثانية. فهذا الخلط يجعله يعتقد أنه إذا تخلى عن تعدد الزوجات أو قطْع يد السارق أو الرجم، تخلى عن إيمانه أو عن جزء منه. ولكنه في نفس الوقت يشعر بأنه إذا دافع عن هذه الأحكام فهو غير مواكب لعصره وما أثمره من رؤى وأحكام جديدة متقدمة وأكثر إنسانية. وقد عاش مثل هذا التمزّق مثقف كبير مثل قاسم أمين "رائد تحرير المرأة في مصر". فقد نشر في أواسط التسعينات من القرن التاسع عشر (1894) كتابا باللغة الفرنسية بعنوان "المصريون" ردّ فيه على مواقف احتقارية للفرنسي "دوق داركور" وقد وجد قاسم أمين نفسه يدافع بكل ضراوة عن "الحكمة" الموجودة في تعدد الزوجات وغير ذلك من الأحكام والتقاليد المحقّرة للنساء والتي ترسخت في عصور الانحطاط وأصبحت بمثابة "العقيدة الدينية" أو "الهوية". ولكن بعد سنوات قليلة، وبتشجيع على ما يبدو من مفتي الديار المصرية، الشيخ محمد عبدو، وجد قاسم أمين نفسه ينتقد بحماس كبير ما كان دافع عنه بالأمس لشعوره بأنه من غير المنطقي تبرير اضطهاد النساء وتحويله إلى هوية للمسلمين، وهو ما جعله في موقف هجومي حيال الكتّاب والمثقفين الغربيين الاستعماريين الذين يوظفون مظاهر التخلف في الحضارة العربية الإسلامية لتبرير استعمار العرب والمسلمين، بينما كان بالأمس في موقف دفاعي لا يحسد عليه!!
إن العلمانية هي الوسيلة الوحيدة في الحقيقة التي توفر للمسلم/المسلمة التوازن المطلوب أو المنشود، لأنها تمكنه من الفصل بين العقيدة والشريعة، بين ما هو دين/عقيدة/إيمان المُكتسى في ذهنه طابع المطلق وبين ما هو اجتماعي، سياسي، دنيوي، متغير باستمرار، خاضع لاجتهاد البشر، ولمصالحهم المتضاربة أيضا والتي تدفعهم إلى اتخاذ مواقف متباينة، متضاربة حول الموضوع نفسه. وبهذه الصورة، يُرضي المسلم/المسلمة ضميره من جهة ويعيش عصره، ويدافع عن مصالحه من جهة أخرى، وهذا لا يعني أنه لا يجوز له أن يستلهم مواقفه من هذه القضية أو تلك من قيمه الدينية، العامة، المهم أن لا يقع في الجمود ويحوّل بعض المنتجات التاريخية إلى عقيدة أو هوية، فيعرّف المسلم بأنه ذاك الذي "يؤمن" بأن المرأة "أداة للمتعة والإنجاب" وأنها "ناقصة عقل" و"شيطان رجيم" و"فتنة" و"مكانها الطبيعي هو البيت" ولا حقّ لها في المشاركة في الحياة العامة، ومن حق الرجل أن يؤدبها "ضربا" وهي كلها مواقف موجودة في النصوص الدينية والفقهية.
لقد انتبه إلى هذا الأمر منذ قرون عديدة، رجل دين، هو الإمام أبو إسحاق الشاطبي الأندلسي (720-790هـ) الذي جعل من المقاصد أساسا لفهم النص الديني مبعدا به عن "الحرفية والتجزيئية" وفاتحا بابا لإمكانية "التجديد". فما الذي يمنع اليوم المسلم/المسلمة من الاجتهاد وتخطي الجمود العقائدي وتبني الحل الذي لا يحكم عليه بالانغلاق ولا يبقيه في موقع دفاعي، يدافع عن أفكار وأحكام وممارسات تجاوزها الزمن ولا مصلحة إلا لرجال الدين المحافظين المرتبطين بمصالح الفئات الرجعية، الإقطاعية والبرجوازية الكمبرادورية، وبأنظمة الاستبداد، في استمرارها حتى يستمروا هم في السيطرة على عقول جماهير الشعب بغطاء الدين. إن هؤلاء، وغيرهم من أقطاب السلفية الرجعية، هم الذين يربكون المسلمين والمسلمات ويحجبون عنهم النور ويعزلونهم عن التقدم بإيهامهم بأنهم يستمدون "هويتهم" و"أخلاقهم" من اضطهاد النساء وبعض أحكام الشريعة كقطع يد السارق أو الرجم ويخيفونهم من العلمانية ويقدمونها إليهم على أنها "شر الشرور" والحال أنها مكسب إنساني!! إن المسلم في حاجة إلى "هوية جديدة" تحافظ على مقوماته الحضارية والثقافية وعلى ما فيها من إيجابيات وفي نفس الوقت تستوعب مكتسبات الإنسانية التقدمية التي من بينها المساواة بين الجنسين.
أما النقطة الثانية فتتمثل في الفكرة التي يروجها دعاة الدولة التيوقراطية والتي تزعم أن العلمانية تضعف الهوية الوطنية وتخدم الاستعمار وتساعده عل التغلغل في أقطارنا. وهذه الفكرة كغيرها من الأفكار التي تلصق الفساد الأخلاقي بالعلمانية لا أساس لها من الصحة وهي تهدف إلى إرباك المسلم/المسلمة ومغالطتهما وتشويه وعيهما. فإذا كان ثمة شيء يضعف الهوية الوطنية لشعب من الشعوب أو لأمّة من الأمم، فهو ليس العلمانية، وإنما هو الدولة الدينية لأنها تفرّق بين أبناء وبنات الوطن الواحد على أساس عقائدي، فعوض أن يشعر الفرد بانتمائه إلى الوطن، الذي يكسبه هويته، يشعر بانتمائه إلى دين أو مذهب في صلب نفس الديانة، يمنحه هويته ويحدد علاقته بالآخر، من أبناء/بنات وطنه حتى وإن كانوا ينتمون إلى نفس القومية أو الأمة، وهو ما يجرهم إلى التطاحن والكراهية. وليس أدلّ على هذا الأمر مما يجري في العراق. فالامبرياليون الأمريكيون والأنجليز سارعوا بعد احتلال العراق إلى تقسيمه إلى طوائف وبناء المؤسسات السياسة للحكم على أساس ذلك، وهو ما غذى الصراع بين الطوائف في المقام الأول بين العرب السنّة والعرب الشيعة. وكذلك الأمر في لبنان التي شهدت خلال السبعينات والثمانينات حربا طائفية ضروسا غذاها الكيان الصهيوني والقوى الامبريالية. وتوجد اليوم محاولات جادة لإشعال نار الفتنة الطائفية من جديد. وفي السودان كان إعلان قيام "الدولة الإسلامية" وتطبيق الشريعة في عهد حكم "النميري-الترابي" ثم في عهد حكم "البشير-الترابي"، عاملا أساسيا من العوامل التي غذت التمرد المسيحي في الجنوب. وها أن حسن الترابي زعيم "الجبهة الإسلامية القومية" يعترف الآن بخطأ ما كان دعا إليه بالأمس ويقر بالفساد الذي كان سائدا في "الدولة الإسلامية" والذي كان كوادر حزبه طرفا أساسيا فيه.
إن العلمانية وهي النظام الذي يؤمن حرية الضمير والعقيدة للجميع ويؤسس العلاقة بين أبناء الوطن الواحد، نساء ورجالا، على مبدأ المواطنة الذي يعني المساواة في الحقوق بقطع النظر عن الدين أو المذهب هي الكفيلة وحدها، كما أوضح ذلك حزب العمال منذ سنوات ("الحد الأدنى الدّيمقراطي لتحالفنا اليوم و غدا" – أفريل 2001)المساعدة على بلورة وعي وطني يتجاوز تلك الانتماءات وتقوم عليه وحدة وطنية صمّاء في مواجهة الأخطار الأجنبية الموجودة فعلا أو المحتملة.
وعلى هذا الأساس فنحن لا نفصل بين العلمانية والوطنية، بل نرى فيهما وحدة لا تنفصم، نرى في العلمانية جزءا لا يتجزأ من مشروع النهضة الوطنية وبرنامجها المناهض للامبريالية والاستعمار الأجنبي الذي يستخدم الصراع الطائفي أو القومي أو الثقافي لضرب الوحدة الوطنية وتفتيت أبناء البلد الواحد ليسهل عليه إخضاعهم والسيطرة عليهم. وهذا الموقف الذي ندافع عنه هو الموقف الملائم لمصالح الشعوب التي تريد التخلص من التبعية والاستغلال الفاحش والاستبداد السياسي والإيديولوجي وتحقيق تحررها التام وإقامة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
بالطبع يوجد من يطرح العلمانية من موقع التبعية للغرب الامبريالي، أي من موقع ازدراء هويته الوطنية وتمجيد "هوية" الغزاة بعنوان الدفاع عن "الحداثة" و"التقدم" و"الكونية"universalisme . والذنب هنا ليس ذنب العلمانية، بل ذنب الذين يستعملونها غطاء لإخفاء معاداتهم لأوطانهم وتبعيتهم، تماما مثلما تستخدم قوى سياسية أخرى الدين غطاء لإخفاء عمالتها. ففي العراق تستند الامبريالية الأمريكية اليوم على أحزاب دينية، شيعية وسنية لتكريس الاحتلال ونهب خيرات البلاد وثرواتها وتفتيت وحدتها وتقتيل أبنائها. كما تستند في المنطقة على أنظمة دينية تعلن نفسها "حامية الإسلام" ونقصد هنا بالخصوص النظام السعودي.
إن أي تقدمي لا يمكن له إلا أن يسعى إلى تحديث بلاده حتى تخرج من التخلف الذي هي فيه. ولكن عليه أن يدرك أنه لا حداثة خارج الهوية الثقافية والحضارية الخاصة أي خارج تطوير العناصر الثقافية والحضارية التقدمية الخاصة حتى تصبح الحداثة نبتة وطنية، صلبة، قادرة على البقاء والدوام. ومن البديهي أن يستلهم المرء في تحديث بلاده من مكتسبات الإنسانية، ولكن دون التخلي عن هويته، بل عليه أن يصارع "العولمة الامبريالية" التي تعمل على تدمير هويات الشعوب والأمم الأخرى لتفرض عليها هويتها هي، أكلا ولباسا وسلوكا وذوقا ولغة وفنا... لتقطع كل رابط بينها وتسيطر عليها.
إن كونية العمال والشعوب، كونية الإنسانية التقدمية، تقوم على احترام هوية كل شعب وكل أمة، وعلى الإيمان بأن كل شعب وكل أمة لها إسهامها في الإرث الإنساني، من خلال إبداعاتها الخاصة، التي تلتقي مع إبداعات الآخرين في الدفاع عن تحرير الإنسان من كل استلاب اقتصادي واجتماعي وسياسي وإيديولوجي. وهذه العملية لم تبدأ اليوم بل بدأت منذ فجر الإنسانية، وهي في كل مرة تخطو خطوة إلى الأمام، في خضم من الدماء والدموع، ضد أعداء الإنسانية من الطبقات والفئات المستغِلّة. ومن المؤكد أن هوية إنسانية مشتركة ستنشأ في يوم من الأيام، ولو في مستقبل بعيد، ولكنها لن ترى النور إلا بعد تجاوز التضادات الطبقية والعرقية والقومية والدينية والجنسية وتصبح مجرد ذكرى من ذكريات "العصور الوحشية للإنسان". وهذه الهوية الإنسانية المشتركة ستنشأ من الهويات المختلفة، ولا يمكن الجزم أنها ستلغي التنوع والاختلاف، ولكن يمكن الجزم فقط، أن الإنسانية ستتجمّع حول قيم المساواة والعدالة الاجتماعية والحرية التي ستتحول إلى جزء من "طبيعتها".
أشرتُ في مداخلتي إلى أن أحد أهم المشاكل التي تعاني منها الحياة الفكرية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية هو إلباس المسائل الدنيوية، العَلمانيّة، لبوسًا دينيا، وتحويلها إلى مسائل لاهوتية وإضفاء طابع قدسي وإطلاقي عليها وتحريم الخوض فيها وتكفير كل دعوة إلى تعديلها أو تغييرها. ففي الأوساط الدينية المحافظة والتيارات السلفية والأصولية مثلا يعتبر تعدد الزوجات وعدم المساواة بين الرجل والمرأة وحرمانها من حقوقها الأساسية بما في ذلك أحيانا حقها في الدراسة والشغل وممارسة مختلف المهن والوظائف العمومية وقوامة الرجل على المرأة و"حقه" في تأديبها ضربا، جزءا لا يتجزأ من "العقيدة الإسلامية" ومن "الهوية العربية الإسلامية" وبالتالي فإن الطعن في تلك الأحكام والمواقف والممارسات يعتبر طعنا في الدين والهوية.
وليس هذا الموقف موقفا، هامشيا معزولا اليوم، بل هو موقف شائع، مؤثـّر شديد التأثير خصوصا مع المد الذي يعرفه مجددا الفكر السلفي بكل تلويناته وتيارات الإسلام السياسي بمختلف فروعها. وقد أحدث هذا الواقع ارتباكا شديدا داخل القوى الديمقراطية العلمانية التي تعددت ردود فعلها. ونودّ التعرّض بصورة خاصة إلى ردّتي فعل من بين هذه الردود، ويتمثل الأول في التراجع عن الدفاع عن حقوق المرأة من موقع عَلماني، تقدمي، واللجوء إلى "حجج دينية" للدفاع عن هذه الحقوق اقتداء ببعض أعلام المدرسة الإصلاحية الإسلامية أمثال الطاهر الحداد وقاسم أمين ومحمد عبده وغيرهم، ممّن حاولوا إعادة تأويل النص الديني لتحميله معاني جديدة تتوافق مع ضرورة تحرير المرأة من العديد من القيود التي تكبلها. وقد نحا البعض الآخر منحى مناقضا لهذا التوجه إذ يغالي في نقد الإسلام متهما إياه بأنه السبب الرئيسي في الأوضاع التي تعاني منها المرأة، ويردّ ردا انفعاليا على كل إشارة إلى الإسلام أو إلى الهوية العربية الإسلامية حتى لو لم تكن لها أية علاقة بالحركات السلفية والأصولية. إن هذين الموقفين أحاديا الجانب ويتطلبان منا توضيحات وتصحيحات عدة حتى يستقيم أمرهما.
إن الموقف الأول يتميز، كما لا يخفى على أحد، ببعض النجاعة السياسية لما فيه من مراعاة إن لم نقل من "تحيّل"، على الذهنية العامة للناس، بما أنه يحاول أن يقنعهم بأنهم، بتبنيهم لهذا المكسب أو ذاك من المكاسب المتعلقة بالمساواة بين الجنسين والتي تحققت في العصور الحديثة، لا يخرجون من "قشرتهم" أي لا يتخلون عن "دينهم" و"هويتهم" و"تراثهم" أي أنهم يبقون "هُمُ" وهو ما يريح ضمائرهم، ويقيهم ولو نسبيا، من بعض الارتباك أو الشعور بنوع من الانفصام. لكن لهذا الموقف حدوده ومساوئه، لا لسبب هشاشته المنهجية في مواجهة "المحافظين" الذين يمكنهم أن يستخرجوا من النصوص الدينية، آيات وأحاديث كثيرة قادرة على "مهزلة" التأويلات التي يقوم بها أصحاب ذلك الموقف وإظهار طابعها الملفق (خصوصا إذا كان الموقف الوارد في تلك النصوص واضحا) بل لأنه يحوّل المعرفة إلى مجرّد عملية تأويل مستمرة للنصّ. فالنص مطلق، ثابت، جاء بكافة المعارف، وفي كافة الميادين مرة واحدة وما على المسلم إلا أن "يولّد" أو "يستنبط" منه، عن طريق إعادة التفسير والتأويل وفقا لمقتضيات العصر، وهو ما ينزع عن المعرفة بشكل عام وعن المعارف الواردة في النص بشكل خاص طابعها التاريخي. إن المعرفة غير معزولة إطلاقا عن التجربة والممارسة التاريخيين في كل المجالات وتحديدا في العلم والاقتصاد والاجتماع والسياسة. وبما أن المعرفة تاريخية فهي مثلها مثل كل الظواهر التاريخية، تتطور وتشهد في تطورها تراكمات كمية كما تشهد قفزات نوعية تنتقل فيها من طور إلى طور تتم فيه مراجعة المعارف السابقة في هذا الميدان أو ذاك، فيكون لذلك انعكاس على حياة الإنسان الفكرية (نظرته لنفسه وللمجتمع والطبيعة) والمادية (وسائل عيشه...).
وفوق ذلك فإن هذه النظرة التأويلية تطمس ما يقوم به "المؤوّلون" من مجهود معرفي، ذلك أن المواقف التي يعبرون عنها هي في الواقع منطلقة من معارف عصرهم الناجمة عن سيرورة تاريخية عاشتها مجتمعات أخرى متقدمة أو تعيشها مجتمعاتهم ولو بشكل جزئي ومحدود أو حتى مشوه كما هو حال المجتمعات العربية. ولكن هؤلاء يحاولون تقديمها على أنها موجودة أصلا في النصوص الدينية أو أن هذه الأخيرة لا تعارضها مبدئيا. ويكمن الجانب السلبي في هذا المنهج في أنه يشجع المؤمن/المسلم على نوع من الكسل والخمول الفكريين، فهو عوض أن يجتهد ويبحث وينقد ويراجع ويتجاوز أو حتى يقطع ويؤسس، أو بالأحرى ينتج معارف جديدة في هذا المجال أو ذاك، يكتفي باستهلاك المعارف التي ينتجها الآخرون المتقدمون عنه تاريخيا، مع محاولة "تأصيلها" أو "تجذيرها" بشكل تلفيقي في ثقافته. إن المعرفة لا ينتجها إلا من يدرك أنها حصيلة بحث وصراع مع القديم الذي تجاوزه الزمن. فالمساواة بين المرأة والرجل مثلا ليست موجودة من قبل في أي حضارة من الحضارات، ولم تقرّها بشكل تام وفعلي أي شريعة من الشرائع لأسباب تاريخية بالطبع، وهي نتاج العصور الحديثة التي سجلت تطورات نوعية في كافة ميادين الحياة، وحتى في هذه العصور لم تأت المساواة ولم يقع إقرارها كمبدأ عام إلا عبر صراعات مضنية خاضها النساء وأنصارهن من الرجال التقدميين. لذلك فأن يقول المرء إن المساواة بين الجنسين "موجودة في النص أصلا" وتكفي قراءته وتأويله من جديد على هذا النحو أو ذاك، إنما هو يوقع المسلم، عن وعي أو عن غير وعي، في خلط من شأنه أن يحدّ من جهوده لكسب المعرفة وإنتاجها إضافة إلى أنه لا يتيح له التعامل مع تاريخه وثقافته من زاوية نقدية. إن النصوص، كل النصوص، بما في ذلك النصوص الدينية لها تاريخيتها أي أنها مرتبطة باللحظة التاريخية التي ولـّدتها أو وُلِدَتْ فيها وهي تحمل بالضرورة سماتها.
هذا في خصوص الموقف الأول. أما الموقف الثاني فإن ما يتسم به من تشنج إزاء الإسلام لا تفسره إلا النظرة اللا تاريخية إلى هذه الديانة، وهي نظرة لا تختلف في لا تاريخيتها عن النظرة المقابلة التي تعتبر أحكام الإسلام أو شريعته "خارجة عن التاريخ" و"صالحة لكل زمان ومكان". إن الإسلام، موضوعا في إطاره التاريخي، شكّل "ثورة" في اللحظة التي جاء فيها، والعبارة ليست لي، وإنما هي لكارل ماركس، واضع أسس علم التاريخ الحديث. وقد شكل الإطار الفكري والسياسي لأعظم حضارة في العصر الوسيط، وأدخل إصلاحات على وضع النساء مقارنة بوضعهن السابق، في مكة والحجاز خاصة. وظهر خلال القرون الأولى للإسلام مفكرون استنكروا الوضع الدوني للمرأة في ما تعلّق بتعدد الزوجات، أو حجبهن في البيوت واستعبادهن (المعري، الجاحظ، ابن رشد...). ولما توقفت الحضارة العربية الإسلامية عن التطور وتحديدا عن الانتقال إلى مرحلة الرأسمالية لأسباب لا يسمح المجال بشرحها وسيطر على المجتمعات العربية والإسلامية الجمود الفكري والعقائدي، ازداد اضطهاد النساء وأصبغ الفقهاء وضعهن الدوني بصبغة قدسية، وربطوا ذلك الوضع بـ"إرادة إلهية". وكان النساء في البلدان المسيحية يعانين وقتها من نفس الأوضاع بل أحيانا من أوضاع أقسى وأشدّ. ولكن ما حصل هو أن هذه البلدان شهدت نهضة كبرى بظهور الرأسمالية فيها التي توّجت بثورات سياسية واجتماعية وفكرية ذات طابع بورجوازي خلقت إطارا جديدا لطرح مسألة تحرر النساء من عبودية القرون الوسطى. وفي الوقت الذي كان فيه النساء في أوروبا في القرن 19 ينهضن، كانت الأوضاع في المجتمعات العربية والإسلامية راكدة وأوضاع النساء فيها متخلفة، وفي هذه اللحظة حصل الانفصال بين وضع النساء في أوروبا ووضع النساء في البلدان العربية والإسلامية ثم حصل لاحقا الانفصال بين وضع النساء في معظم بلدان العالم التي شهدت تحولات ووضع النساء في البلدان العربية والإسلامية التي حافظت على أنظمتها القديمة. ولا يمكن تحميل مسؤولية تخلف أوضاع النساء العربيات والمسلمات إلى الإسلام في حد ذاته، فهذه نظرة مثالية مغلوطة. إن الإسلام جاء في لحظة تاريخية محددة وقام بدور هام في تطوير وضع المجتمعات العربية القديمة ولكنّ المسؤولية مسؤولية المسلمين الذين لم يطوروا أوضاعهم ولم ينهضوا كما نهض الأروبيون، وحافظوا على بناهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التقليدية المتخلفة، التي سهلت سيطرة الاستعمار عليهم. وبما أنهم لم يتطوروا ولم ينهضوا فإنهم لم يشهدوا ثورات فكرية واجتماعية وسياسية، كما أنهم لم يشهدوا حتى حركة إصلاح ديني عميقة كالتي شهدتها أوروبا في القرن السادس عشر. ولم ينتجوا معارف جديدة ولم يحدثوا تحولات جوهرية في أوضاع النساء. وما يزال العرب والمسلمون إلى اليوم يعانون من التخلف لأنهم، لم يشهدوا، رغم كل المحاولات، ثورة جذرية على أوضاعهم، لأسباب داخلية وخارجية، منها الهيمنة الامبريالية الاستعمارية في أشكالها القديمة والجديدة من جهة وأنظمة العمالة والاستبداد من جهة ثانية. وهذا التحالف معيق للتطور والتحديث في المجتمعات العربية والإسلامية وهو في أحسن الأحوال يقود إلى تحديث مشوه. ولا يمكن تحقيق نهضة عميقة وشاملة قادرة على الارتقاء بوضع النساء إلا بالقضاء على هذا التحالف. وهذه المهمة لا يمكن أن تنجزها إلا الطبقة العاملة المسنودة بالشعب، لأنها هي القوة الاجتماعية الوحيدة القادرة، في غياب بورجوازية وطنية، على قيادة تحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية عميقة ولكن هذا الأمر يبقى مشروطا بوعيها بذاتها وبدورها الاجتماعي. لذلك فإن محاولة ربط التأخر الحالي الذي تعاني منه أوضاع النساء بـ"الإسلام" في حد ذاته هو تفسير مثالي، دون أن يعني ذلك أن الإيديولوجيا الدينية ليس لها دور في عرقلة تحرر النساء، ولكن هذه الإيديولوجيا تفعل فعلها من خلال البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التقليدية، وما يسهّل تجاوزها هو تثوير هذه البنى، وقتها ستتوفر الظروف لتتهاوى تلك الإيديولوجية وتحل محلها إيديولوجيا تقدمية.
إن ما أردنا قوله هو أن التشنّج الذي يبديه البعض حيال الإسلام لا يمكن أن يقنع عامة الناس الذين سيرون فيه استفزازا لمشاعرهم الدينية. ولكن هل يعني ذلك عدم نقد الشريعة أو الدين أو الفكر الديني بصفة عامة، بدعوى عدم المساس بتلك المشاعر. لا، أبدا! إنما المسألة تتمثل في معرفة أي مدخل يمكن اعتماده لمناقشة أحكام الشريعة المتعلقة بالمرأة مثلا، مناقشة هادئة، موضوعية، مقنعة، لا مجال فيها لاستفزاز المشاعر الدينية من جهة أو لتقديس أحكام الشريعة من جهة ثانية. إن هذا المدخل هو التاريخ الذي قال عنه ماركس في "الأيديولوجيا الألمانية": "نحن لا نعرف إلاّ علما واحدا وهو علم التاريخ" تأكيدا لأهميته في معرفة تطور الحياة البشرية والقوانين العامة التي وجّهتها وحكمتها. والتاريخ هو الذي يمكّننا من تنسيب الأشياء. فوضع كل حكم من أحكام الشريعة في إطاره التاريخي أي في إطار الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي يتنزل فيها من شأنه أن ينزع عنه كل طابع إطلاقي ويبين لماذا كان على ذلك النحو وليس على نحو آخر ويضفي عليه بالتالي صبغة انتقالية في مجرى التاريخ المتطور باستمرار.
لقد بينتُ في مداخلتي مثلا الطابع التاريخي، النسبي، الانتقالي لأحكام الميراث وارتباطها بالعلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة وقتها في مكة والحجاز، وأكدت أن هذه الأحكام تجاوزها الزمن بتجاوز الظروف التي أنشأتها ومجيء ظروف جديدة أصبح فيها للنساء موقع جديد في العلاقات الاجتماعية بسبب خروجهن إلى الشغل ومساهمتهن في الحياة العامة. ويمكننا إضافة مثال ثان وهو حدّ قطع يد السارق. فهذا العقابُ كان سابقا للإسلام وابتدعه حسب الإخباريين الوليد بن المغيرة (والد خالد) (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي، ج-5، ص 605) في مجتمع قبلي لم تكن فيه لا دولة ولا سلطة قضائية ولا سجون، فكانت الأحكام تتخذ طابعا ماديا مباشرا. وكان حكم قطع يد السارق سُنّ في وقت قريب من الإسلام، فلما جاء الإسلام حافظ عليه (حتى وإن رفض مبتدعه الوليد بن المغيرة دخول الإسلام)، وهو ما لا ينزع عنه طابعه التاريخي، النسبي والانتقالي، لكن الفقهاء أصبغوه بصبغة إطلاقية، وجعلوه فوق التاريخ. ولئن تجاوزه عدد من البلدان الإسلامية التي أصبحت تطبّق قوانين وضعية فإن دولا أخرى ما تزال تطبّقه كما تطبّق عقوبات بدنية أخرى مثل الجلد والرجم. كما أن تيارات سلفية عديدة ضمنت برامجها تطبيق الحدود. وهي تدعو إلى التراجع عن القوانين الوضعية التي استبدلت عقوبة قطع يد السارق بعقوبة السجن، وهو ما يجعلها خارج التاريخ وضد التقدم الإنساني الذي أعطى للجسم حرمته وآمن بإمكانية الإصلاح، وتشوه صورة المسلم وتسهّل على القوى الامبريالية والاستعمارية تقديمه على أنه "متوحّش" و"متخلف".
إن التاريخ إذن يبقى هو المدخل للتنسيب، ولتيسير نشر الوعي في صفوف جماهير الشعب بشكل عام وجماهير النساء بشكل خاص حتى تتصدى للفكر الرجعي المتخلف الذي يتستر بالدين، ويصبح التقدم وبالتالي مبادئ الحرية والمساواة جزءا من هويتها الجديدة. إن المسألة ليست مسألة صراع بين "مؤمنين" و"ملحدين" وإنما هي بين قوى التقدم التي تريد للشعب التونسي ولنساء تونس الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وقوى التخلف التي تشدهما إلى الوراء، عن طريق الاستغلال الفاحش والاستبداد السياسي والفكري والتبعية.
(4) العَلمانية، الهوية، والوطنية:
نقطتان أثيرتا في هذا المجال، الأولى تتمثل في ما يتردد على العديد من الألسن من أن التونسي أو التونسية، (المسلم/المسلمة)، في حاجة إلى الشعور بـ"الاطمئنان" بأنهما "يحافظان على إيمانهما" من جهة و"يواكبان عصرهما" من جهة ثانية، فلا "انفصام" عن ماضيهما من ناحية ولا عن حاضرهما من ناحية ثانية. وفي الواقع لا يوجد غير العلمانية لتوفر هذا التوازن. ذلك أن مأتى الاضطراب لدى البعض متأتّ من الخلط بين العقيدة من جهة والمسائل الاجتماعية والسياسية من جهة ثانية. فهذا الخلط يجعله يعتقد أنه إذا تخلى عن تعدد الزوجات أو قطْع يد السارق أو الرجم، تخلى عن إيمانه أو عن جزء منه. ولكنه في نفس الوقت يشعر بأنه إذا دافع عن هذه الأحكام فهو غير مواكب لعصره وما أثمره من رؤى وأحكام جديدة متقدمة وأكثر إنسانية. وقد عاش مثل هذا التمزّق مثقف كبير مثل قاسم أمين "رائد تحرير المرأة في مصر". فقد نشر في أواسط التسعينات من القرن التاسع عشر (1894) كتابا باللغة الفرنسية بعنوان "المصريون" ردّ فيه على مواقف احتقارية للفرنسي "دوق داركور" وقد وجد قاسم أمين نفسه يدافع بكل ضراوة عن "الحكمة" الموجودة في تعدد الزوجات وغير ذلك من الأحكام والتقاليد المحقّرة للنساء والتي ترسخت في عصور الانحطاط وأصبحت بمثابة "العقيدة الدينية" أو "الهوية". ولكن بعد سنوات قليلة، وبتشجيع على ما يبدو من مفتي الديار المصرية، الشيخ محمد عبدو، وجد قاسم أمين نفسه ينتقد بحماس كبير ما كان دافع عنه بالأمس لشعوره بأنه من غير المنطقي تبرير اضطهاد النساء وتحويله إلى هوية للمسلمين، وهو ما جعله في موقف هجومي حيال الكتّاب والمثقفين الغربيين الاستعماريين الذين يوظفون مظاهر التخلف في الحضارة العربية الإسلامية لتبرير استعمار العرب والمسلمين، بينما كان بالأمس في موقف دفاعي لا يحسد عليه!!
إن العلمانية هي الوسيلة الوحيدة في الحقيقة التي توفر للمسلم/المسلمة التوازن المطلوب أو المنشود، لأنها تمكنه من الفصل بين العقيدة والشريعة، بين ما هو دين/عقيدة/إيمان المُكتسى في ذهنه طابع المطلق وبين ما هو اجتماعي، سياسي، دنيوي، متغير باستمرار، خاضع لاجتهاد البشر، ولمصالحهم المتضاربة أيضا والتي تدفعهم إلى اتخاذ مواقف متباينة، متضاربة حول الموضوع نفسه. وبهذه الصورة، يُرضي المسلم/المسلمة ضميره من جهة ويعيش عصره، ويدافع عن مصالحه من جهة أخرى، وهذا لا يعني أنه لا يجوز له أن يستلهم مواقفه من هذه القضية أو تلك من قيمه الدينية، العامة، المهم أن لا يقع في الجمود ويحوّل بعض المنتجات التاريخية إلى عقيدة أو هوية، فيعرّف المسلم بأنه ذاك الذي "يؤمن" بأن المرأة "أداة للمتعة والإنجاب" وأنها "ناقصة عقل" و"شيطان رجيم" و"فتنة" و"مكانها الطبيعي هو البيت" ولا حقّ لها في المشاركة في الحياة العامة، ومن حق الرجل أن يؤدبها "ضربا" وهي كلها مواقف موجودة في النصوص الدينية والفقهية.
لقد انتبه إلى هذا الأمر منذ قرون عديدة، رجل دين، هو الإمام أبو إسحاق الشاطبي الأندلسي (720-790هـ) الذي جعل من المقاصد أساسا لفهم النص الديني مبعدا به عن "الحرفية والتجزيئية" وفاتحا بابا لإمكانية "التجديد". فما الذي يمنع اليوم المسلم/المسلمة من الاجتهاد وتخطي الجمود العقائدي وتبني الحل الذي لا يحكم عليه بالانغلاق ولا يبقيه في موقع دفاعي، يدافع عن أفكار وأحكام وممارسات تجاوزها الزمن ولا مصلحة إلا لرجال الدين المحافظين المرتبطين بمصالح الفئات الرجعية، الإقطاعية والبرجوازية الكمبرادورية، وبأنظمة الاستبداد، في استمرارها حتى يستمروا هم في السيطرة على عقول جماهير الشعب بغطاء الدين. إن هؤلاء، وغيرهم من أقطاب السلفية الرجعية، هم الذين يربكون المسلمين والمسلمات ويحجبون عنهم النور ويعزلونهم عن التقدم بإيهامهم بأنهم يستمدون "هويتهم" و"أخلاقهم" من اضطهاد النساء وبعض أحكام الشريعة كقطع يد السارق أو الرجم ويخيفونهم من العلمانية ويقدمونها إليهم على أنها "شر الشرور" والحال أنها مكسب إنساني!! إن المسلم في حاجة إلى "هوية جديدة" تحافظ على مقوماته الحضارية والثقافية وعلى ما فيها من إيجابيات وفي نفس الوقت تستوعب مكتسبات الإنسانية التقدمية التي من بينها المساواة بين الجنسين.
أما النقطة الثانية فتتمثل في الفكرة التي يروجها دعاة الدولة التيوقراطية والتي تزعم أن العلمانية تضعف الهوية الوطنية وتخدم الاستعمار وتساعده عل التغلغل في أقطارنا. وهذه الفكرة كغيرها من الأفكار التي تلصق الفساد الأخلاقي بالعلمانية لا أساس لها من الصحة وهي تهدف إلى إرباك المسلم/المسلمة ومغالطتهما وتشويه وعيهما. فإذا كان ثمة شيء يضعف الهوية الوطنية لشعب من الشعوب أو لأمّة من الأمم، فهو ليس العلمانية، وإنما هو الدولة الدينية لأنها تفرّق بين أبناء وبنات الوطن الواحد على أساس عقائدي، فعوض أن يشعر الفرد بانتمائه إلى الوطن، الذي يكسبه هويته، يشعر بانتمائه إلى دين أو مذهب في صلب نفس الديانة، يمنحه هويته ويحدد علاقته بالآخر، من أبناء/بنات وطنه حتى وإن كانوا ينتمون إلى نفس القومية أو الأمة، وهو ما يجرهم إلى التطاحن والكراهية. وليس أدلّ على هذا الأمر مما يجري في العراق. فالامبرياليون الأمريكيون والأنجليز سارعوا بعد احتلال العراق إلى تقسيمه إلى طوائف وبناء المؤسسات السياسة للحكم على أساس ذلك، وهو ما غذى الصراع بين الطوائف في المقام الأول بين العرب السنّة والعرب الشيعة. وكذلك الأمر في لبنان التي شهدت خلال السبعينات والثمانينات حربا طائفية ضروسا غذاها الكيان الصهيوني والقوى الامبريالية. وتوجد اليوم محاولات جادة لإشعال نار الفتنة الطائفية من جديد. وفي السودان كان إعلان قيام "الدولة الإسلامية" وتطبيق الشريعة في عهد حكم "النميري-الترابي" ثم في عهد حكم "البشير-الترابي"، عاملا أساسيا من العوامل التي غذت التمرد المسيحي في الجنوب. وها أن حسن الترابي زعيم "الجبهة الإسلامية القومية" يعترف الآن بخطأ ما كان دعا إليه بالأمس ويقر بالفساد الذي كان سائدا في "الدولة الإسلامية" والذي كان كوادر حزبه طرفا أساسيا فيه.
إن العلمانية وهي النظام الذي يؤمن حرية الضمير والعقيدة للجميع ويؤسس العلاقة بين أبناء الوطن الواحد، نساء ورجالا، على مبدأ المواطنة الذي يعني المساواة في الحقوق بقطع النظر عن الدين أو المذهب هي الكفيلة وحدها، كما أوضح ذلك حزب العمال منذ سنوات ("الحد الأدنى الدّيمقراطي لتحالفنا اليوم و غدا" – أفريل 2001)المساعدة على بلورة وعي وطني يتجاوز تلك الانتماءات وتقوم عليه وحدة وطنية صمّاء في مواجهة الأخطار الأجنبية الموجودة فعلا أو المحتملة.
وعلى هذا الأساس فنحن لا نفصل بين العلمانية والوطنية، بل نرى فيهما وحدة لا تنفصم، نرى في العلمانية جزءا لا يتجزأ من مشروع النهضة الوطنية وبرنامجها المناهض للامبريالية والاستعمار الأجنبي الذي يستخدم الصراع الطائفي أو القومي أو الثقافي لضرب الوحدة الوطنية وتفتيت أبناء البلد الواحد ليسهل عليه إخضاعهم والسيطرة عليهم. وهذا الموقف الذي ندافع عنه هو الموقف الملائم لمصالح الشعوب التي تريد التخلص من التبعية والاستغلال الفاحش والاستبداد السياسي والإيديولوجي وتحقيق تحررها التام وإقامة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
بالطبع يوجد من يطرح العلمانية من موقع التبعية للغرب الامبريالي، أي من موقع ازدراء هويته الوطنية وتمجيد "هوية" الغزاة بعنوان الدفاع عن "الحداثة" و"التقدم" و"الكونية"universalisme . والذنب هنا ليس ذنب العلمانية، بل ذنب الذين يستعملونها غطاء لإخفاء معاداتهم لأوطانهم وتبعيتهم، تماما مثلما تستخدم قوى سياسية أخرى الدين غطاء لإخفاء عمالتها. ففي العراق تستند الامبريالية الأمريكية اليوم على أحزاب دينية، شيعية وسنية لتكريس الاحتلال ونهب خيرات البلاد وثرواتها وتفتيت وحدتها وتقتيل أبنائها. كما تستند في المنطقة على أنظمة دينية تعلن نفسها "حامية الإسلام" ونقصد هنا بالخصوص النظام السعودي.
إن أي تقدمي لا يمكن له إلا أن يسعى إلى تحديث بلاده حتى تخرج من التخلف الذي هي فيه. ولكن عليه أن يدرك أنه لا حداثة خارج الهوية الثقافية والحضارية الخاصة أي خارج تطوير العناصر الثقافية والحضارية التقدمية الخاصة حتى تصبح الحداثة نبتة وطنية، صلبة، قادرة على البقاء والدوام. ومن البديهي أن يستلهم المرء في تحديث بلاده من مكتسبات الإنسانية، ولكن دون التخلي عن هويته، بل عليه أن يصارع "العولمة الامبريالية" التي تعمل على تدمير هويات الشعوب والأمم الأخرى لتفرض عليها هويتها هي، أكلا ولباسا وسلوكا وذوقا ولغة وفنا... لتقطع كل رابط بينها وتسيطر عليها.
إن كونية العمال والشعوب، كونية الإنسانية التقدمية، تقوم على احترام هوية كل شعب وكل أمة، وعلى الإيمان بأن كل شعب وكل أمة لها إسهامها في الإرث الإنساني، من خلال إبداعاتها الخاصة، التي تلتقي مع إبداعات الآخرين في الدفاع عن تحرير الإنسان من كل استلاب اقتصادي واجتماعي وسياسي وإيديولوجي. وهذه العملية لم تبدأ اليوم بل بدأت منذ فجر الإنسانية، وهي في كل مرة تخطو خطوة إلى الأمام، في خضم من الدماء والدموع، ضد أعداء الإنسانية من الطبقات والفئات المستغِلّة. ومن المؤكد أن هوية إنسانية مشتركة ستنشأ في يوم من الأيام، ولو في مستقبل بعيد، ولكنها لن ترى النور إلا بعد تجاوز التضادات الطبقية والعرقية والقومية والدينية والجنسية وتصبح مجرد ذكرى من ذكريات "العصور الوحشية للإنسان". وهذه الهوية الإنسانية المشتركة ستنشأ من الهويات المختلفة، ولا يمكن الجزم أنها ستلغي التنوع والاختلاف، ولكن يمكن الجزم فقط، أن الإنسانية ستتجمّع حول قيم المساواة والعدالة الاجتماعية والحرية التي ستتحول إلى جزء من "طبيعتها".
منقول
نبض الحياة- تابعنا :
أحترام قوانين المنتدى :
الهوايــــــــــات : أتطلع بكل ماهو جديد
بشتغل في : في مجال الهندسة الميكانيكية
أعيش في : الســـــــــــــــــــــــودان - بورتســـــــــــــــــودان
العمل/الترفيه : مهندس
الابراج :
الأبراج الصينية :
عدد المساهمات : 294
نقاط : 65373
تاريخ التسجيل : 26/08/2010
الموقع : مهندسين الدبلوم التقني
العمر : 37
بطاقة الشخصية
رمي النرد :
(5/5) - 0914614568
مـنـتـديــــــــــات الـمهنـــدسيــــــن الـــتـقـنـيـــيـن :: الأقسام الأجتماعية :: منتدى النقاش الهادف
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الإثنين سبتمبر 22, 2014 6:54 pm من طرف اسماعيل حامد
» وقفـة مهمــة لحـفـظ الحـديـث والسـنــة
الإثنين مارس 17, 2014 5:05 pm من طرف mohab_sal
» CNC & CAM Programming
الثلاثاء نوفمبر 05, 2013 7:35 am من طرف training_2012
» تحبات عطرات
الخميس أكتوبر 24, 2013 7:37 pm من طرف عثمان جكنون
» الموصلات الكهربائية
الإثنين مايو 27, 2013 4:19 pm من طرف ABDULKARIM
» Introduction about diploma cad cam
الخميس مايو 02, 2013 11:27 am من طرف training_2012
» بحث عن السدود
الأربعاء مايو 01, 2013 4:37 am من طرف نبض الحياة
» اول قناة تعليمية عن برمجة ماكينات cnc
الإثنين أبريل 01, 2013 12:23 pm من طرف training_2012
» رنامج عمل نظام متكامل لمركز خدمة و صيانة السيارات
الإثنين ديسمبر 31, 2012 12:38 am من طرف نبض الحياة